ليلة القدر هي إحدى ليال العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، وهي أعظم ليلة في السنة وأجلها عند الله تعالى، وقد ورد ذِكر ليلة القدر في القرآن الكريم في أربعة مواضع، ثلاثة منها باللفظ الصريح في سورة القدر في قوله تعالى: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴿1﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴿2﴾ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴿3﴾" (القدر:1-3)، والرابعة ذُكِرت تعريضاً في قوله تعالى: "حم ﴿1﴾ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴿2﴾ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴿3﴾ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴿4﴾" (الدخان: 1-4). وللفقهاء أقوال في سبب تسمية ليلة القدر، فمنهم من قال ان أحكام ومقادير السَنة تُكتَب وتُقَدر فيها مستدلين بقوله تعالى: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴿3﴾ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴿4﴾" (الدخان: 3-4). ومنهم من يرجع سبب تسميتها إلى اللغة، فقالوا سميت بليلة القدر من القدر والشرف والتعظيم، وقال آخرون إنما سميت ليلة القدر لأن الأرض تضيق بالملائكة لكثرتهم فيها تلك الليلة، فالقدر بمعنى التضييق، مستدلين بقوله تعالى: "وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ" (الفجر: 16)، فقدر عليه رزقه أي ضيق عليه رزقه.
فضائل ليلة القدر
هي الليلة التي أُنزل فيها القرآن الكريم، قال الله تعالى: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ" (القدر: 1)، وقال تعالى: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ " (الدخان: 3). وللفقهاء قولان في معنى نزول القرآن في ليلة القدر، القول الأول ان القرآن الكريم نزل في ليلة القدر جملةً واحدة من أوله إلى آخره من السماء العليا من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ثم نزل بعد ذلك منجماً على النبي عليه الصلاة والسلام في ثلاث وعشرين سنة، وهذا قول ابن عباس وأكثر الفقهاء. والقول الثاني ان ابتداء نزول القرآن كان في ليلة القدر.
ومن فضائل ليلة القدر ان أجر وثواب العمل فيها أعظم من أجر وثواب عمل ألف شهر، قال تعالى: "وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴿2﴾ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴿3﴾" (القدر: 2-3).
وهي ليلة كلها خير وسلام من أولها وحتى طلوع الفجر، قال تعالى: "سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ" (القدر: 5).
وقيام ليلة القدر بالصلاة وتلاوة القرآن والذِكر يُكَفر ما تقدم من ذنوب وزلات العبد، قال عليه الصلاة والسلام: "مَن يَقُمْ لَيْلَةَ القَدْرِ، إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ" (رواه البخاري).
وقت ليلة القدر
تعددت الأقوال في وقت ليلة القدر فقيل أنها:
إحدى ليالي الوتر من العشر الأواخر من رمضان، عن أبي سعيد الخُدريِّ رضي الله عنه قال: خطَبَنا رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ فقال: "إنِّي أُريتُ ليلةَ القَدْرِ، وإنِّي نُسِّيتُها (أو أُنسيتُها)؛ فالْتمِسوها في العَشرِ الأواخرِ من كلِّ وَترٍ" (متفق عليه). وليالي الوتر من العشر الأواخر من رمضان هنّ ليلة الواحد والعشرون، والثالث والعشرون، والخامس والعشرون، والسابع والعشرون، والتاسع والعشرون.
وقيل ان ليلة القدر تكون في الليلة الخامسة والعشرون، والسابعة والعشرون، والتاسعة والعشرون من رمضان، عن عُبادةَ بن الصَّامتِ قال: خرَج النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ ليُخبِرَنا بليلةِ القَدْر، فتَلاحَى رجُلانِ من المسلمين، فقال: "خرجتُ لأُخبِرَكم بليلةِ القَدْر، فتَلاحَى فلانٌ وفلانٌ؛ فرُفِعتْ، وعسى أنْ يكونَ خيرًا لكم؛ فالْتمِسوها في التَّاسعةِ والسَّابعةِ والخامسةِ" (متفق عليه).
وورد انها تكون في السبع الأواخر، عن ابن عُمرَ رضِيَ اللهُ عنهُما، أنَّ رِجالًا من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أُرُوا ليلةَ القَدْر في المنامِ في السَّبع الأواخِر، فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ: "أَرَى رُؤياكم قد تَواطأتْ في السَّبع الأواخِر؛ فمَن كان مُتحرِّيَها، فلْيَتحرَّها في السَّبع الأواخِر" (متفق عليه).
وقيل هي الليلة الثالثة والعشرون من رمضان، وذلك لما روى عبداللهِ بن أُنيسٍ رضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: "أُريتُ ليلةَ القَدْر، ثمَّ أُنسيتُها، وأَراني صُبحَها أسجُدُ في ماءٍ وطِينٍ"، قال: فمُطِرْنا ليلةَ ثلاثٍ وعِشرين، فصلَّى بنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ فانصرَف، وإنَّ أثَرَ الماء والطِّين على جَبهته وأنفِه. قال: وكان عبدالله بن أُنيسٍ يقول: ثلاث وعِشرين" (رواه مسلم).
وقيل انها ليلة السابع والعشرون، قال أُبيُّ بنُ كَعب رضي الله عنه في لَيلةِ القَدْرِ: "واللهِ إنِّي لأَعلمُها، وأكثرُ عِلمي هي اللَّيلةُ التي أَمرَنا رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ بقِيامِها، هي ليلةُ سَبعٍ وعِشرينَ" (رواه مسلم).
وورد انها تكون في العشر الأواخر عموماً، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ يُجاوِر في العَشْر الأواخِر من رمضانَ، ويقول: "تَحرَّوا ليلةَ القَدْر في العَشْر الأواخِر من رمضانَ" (متفق عليه).
والراجح من أقوال الفقهاء أن ليلة القدر تتنقل في ليالي العشر الأخيرة من رمضان، وهي في الأوتار آكد، وهي في ليلة سبع وعشرين أرجى ما تكون، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "والصحيح أنها تتنقّل فتكون عاماً ليلة إحدى وعشرين، وعاماً ليلة تسع وعشرين، وعاماً ليلة خمس وعشرين، وعاماً ليلة أربع وعشرين، وهكذا؛ لأنه لا يمكن جمع الأحاديث الواردة إلا على هذا القول، لكن أرجى الليالي ليلة سبع وعشرين، ولا تتعين فيها كما يظنه بعض الناس، فيبني على ظنه هذا، أن يجتهد فيها كثيراً ويفتر فيما سواها من الليالي."
وقد ورد في علامات ليلة القدر أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها، كما قال أُبي بن كعب رضي الله عنه: "هي ليلةُ صَبيحةِ سَبعٍ وعِشرين، وأمارتُها أنْ تطلُعَ الشَّمسُ في صَبيحةِ يومِها بيضاءَ لا شُعاعَ لها" (رواه مسلم).
ولعل حكمة الله تعالى في إخفاء وقت ليلة القدر عن الناس كي يجتهدوا في التماسها في جميع ليال العشر الأواخر من رمضان، فيجتهدوا في القيام والطاعات حتى يوفقوا لنيل خير هذه الليلة المباركة، التي من أدركها أدرك خيراً عظيم.
كتبه: مصعب العوضي